الآثار السلبية للقراءة الجماعية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الامين وبعد:
إذا كانت للقراءة الجماعية فوائد وآثار إيجابية فإنها في الجانب الآخر تحمل آثارًا سلبية وخطيرة على الرقية الشرعية نفسها وعلى المرضى والناس من حولهم، ومن أهم تلك الآثار:
1 - إطالة المرض وصعوبة الشفاء منه، ذلك أن الراقي أو القارئ قد دمج بين الحالات المختلفة وقرأ عليهم جميعًا القراءة نفسها دون النظر إلى حالة كل واحد منهم، لأن حالة المرض تختلف من شخص إلى آخر، ربما يكون من الحضور مريض بعين وآخر بسحر والثالث بمس، والرابع فيه مرض عضوي بعيد عن الحالة النفسية، والخامس ليس فيه شيء وإنما حالة عصبية، والسادس لديه مشكلة اجتماعية ارتدت على نفسيته. وهكذا، فإن كل شخص يحتاج إلى جلسة خاصة لمعرفة حالته عن كثب ومعرفة الأعراض والقرائن التي تظهر عليه نتيجة هذه الحالة، ومن ثم ما تيسر من القرآن الكريم والأدعية المناسبة، أو يوجه إلى من يحل مشكلته، أما أن يتم علاج الجميع بتشخيص واحد فهذا مما لا يقبله الشرع ولا العقل.
2 – في القراءة الجماعية تظهر بعض الأسرار التي لا ينبغي أن يعرفها غير الراقي، لا سيما حينما يبدأ الشيطان المتلبس بكشف أسرار المريض وأسباب المس أو العين أو السحر وغير ذلك، وربما يكون كذبًا وبهتانًا، لا سيما في هذا العصر الذي يسجل فيه كل شيء بالصوت والصورة عن طريق الجوال والبلوتوث، الأمر الذي يدفع الكثيرين من المرضى من حضور القراءة الجماعية، وبذلك يحرم الكثيرون من الرقية الشرعية الصحيحة التي أمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم وعلمّها أمته.
3 – ومن سلبيات هذه القراءة أنها تؤدي في كثير من الأحيان إلى حدوث بعض المحظورات الشرعية، كإخراج الأصوات والصرخات والعويل لا سيما من النساء أثناء القراءة عليهم.
4 – يمتنع الكثيرون من المرضى وحتى من الأصحاء الذين يحضرون مع أقربائهم من حضور القراءة الجماعية والاقتراب من صالاتها، خوفًا على أنفسهم من خروج بعض الشياطين أو المردة من بعض المرضى ثم الالتباس بهم حسب تصورهم، ورغم أن هذا التصور غير صحيح إلا أنه مما عمت به البلوى، وهو أثر سلبي من آثار القراءة الجماعية.
5 – يتولد عند بعض المرضى أثناء القراءة الجماعية الاعتقاد في شخص القارئ أو الراقي ويتقوى هذا الاعتقاد في ذلك الجو المرعب الذي يرى الحضور فيه كأنه هو المنقذ والمخلص وأن الشياطين لا تخاف إلا منه وحده، لا سيما وهو يحمل مكبرًا للصوت وأحيانًا يحمل عصى بيده ثم يذرع بينهم ويقرأ عليهم، وهذا التصور يضعف من الجانب الآخر الاعتقاد بالله تعالى وأن الشفاء منه وحده، وأنه هو القادر على إخراج الشياطين ودحرهم، لأن كل ما يقال في الرقية هو كلام الله تعالى من سور وآيات.
6 – تدفع القراءة الجماعية إلى ظهور فئات أخرى من القراء والرقاة بهدف الحصول على المبالغ الطائلة وتحقيق الثراء الفاحش في فترات وجيزة، فتتحول هذه القراءة إلى مهنة تجارية أكثر من كونها مهنة طبية وشرعية ألا وهي التخفيف من معاناة الناس وعلاجهم بالرقية الشرعية الصحيحة.
7 – تشويه الرقية الشرعية من خلال القراءة الجماعية، الأمر الذي يتنافى مع رقي الإسلام وسمو شرائعه ومبادئه، فقد رأيت في إحدى صالات القراءة مشهدًا تنفر منه الفطرة السوية ولا تمت إلى الدين بصلة، وكأني بقطيع من الماشية يقوده راع غليظ، حيث وجدت مجموعة كبيرة من النسوة في صالة مفتوحة من الأعلى وبينهم هذا القارئ الذي يحمل بيده عصى غليظة ويمر عليهن وهو يتلو آيات من كتاب الله، وحين يسمع صراخًا أو صرعًا من إحداهن يباشرها بالضرب بتلك العصى حتى تسكت وتتوقف عن الصراخ وهكذا، وحسب القراءة الجماعية هذه المفسدة وحدها.
8 – يتبع القراءة الجماعية الكثير من التداعيات السلبية الأخرى، مثل القراءة على كميات كبيرة من الماء دفعة واحدة، ثم توزيعها على قارورات صغيرة الحجم وبيعها إلى المرضى، أو بيعهم بعض الخلطات والأعشاب والعسل والزيوت بأثمان باهظة، وبالتالي لا يحصل المريض في هذه الحالة من الراقي أو القارئ إلى خسارة في المال، ومزيدًا من التعقيد في المرض.
الحكم الشرعي للقراءة الجماعية:
يبدو لي حسب الأدلة الشرعية والقرائن المتوافرة لديّ أن الرقية الجماعية لا تجوز للأسباب الآتية:
1 – ليس هناك دليل شرعي على وجود هذه الكيفية للرقية الشرعية، لا من كتاب الله تعالى ولا من هدي نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد ورد أنه عليه الصلاة والسلام قرأ الرقية على الصحابة، ولكن كانت بصورة انفرادية، فعن عائشة رضي الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى مريضا أو أتي به قال أذهب الباس رب الناس اشف وأنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقمًا"([1]).
وبذلك فإنه يُخشى على الراقي أو القارئ من البدعة التي نهى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، حين قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد"([2]).
2 – لم ترد القراءة الجماعية في الرقية من عمل السلف الصالح، سواء من الصحابة أو التابعين أو الذين جاؤوا بعدهم، وهذا يعني أن هذه الظاهرة حديثة العهد، حين كثرت الأمراض النفسية وازداد إقبال الناس على مراكز الرقى، فاستحدث هؤلاء القرّاء والرّقاة هذه الوسيلة.
3 – إن من أهم أهداف الشريعة الإسلامية هي جلب المصالح ودرء المفاسد، ومن خلال عرض السلبيات والإيجابيات السابقة الذكر، يلاحظ أن مفاسد الرقية الجماعية أكبر وأكثر من منافعها ومصالحها، والشواهد من الواقع كثيرة ومتعددة.
إن واحدًا من تلك الأضرار كاف لمنع الرقية الجماعية شرعًا، فكيف وقد اجتمعت عدة أضرار فيها، وبخاصة في عدم وجود دليل شرعي على إقرارها.
* * *
شبهة وجوابها:
قد يستدل بعض الرقاة – وفقهم الله – بأن الرقية الجماعية لا يلزم منها وجود دليل عليها مع وجود أدلة أخرى على الرقية نفسها وإنما هذه صورة تطبيقية، وكيفية من كيفياتها، وبناء عليه فلا يرون بأسًا بها.
والجواب عن هذه الشبهة: نقول: نعم لا يلزم في الأدلة الشرعية أن نجد نصًا مباشرًا من الكتاب والسنة على كل فعل يستجد، ولكن يلزم أن نجد أصلاً شرعيًا معتمدًا يبنى على القواعد الشرعية المستلهمة من النصوص الشرعية.
وهنا الأمر واضح في مسألة موازنة المصالح والمفاسد المعتبرة شرعًا. ومنها: قاعدة: نفي الضرر، وقاعدة: تعدي المفاسد، وقاعدة: سد الذرائع. وفضلاً عن قاعدة: اجتماع المصالح والمفاسد، وما غلبت مفسدته على مصلحته.
وبناء على هذه القواعد وغيرها يتضح الأمر جليًا بوجوب منع القراءة الجماعية على الكيفية المذكورة في صدر هذه الورقات.
* * *
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.
مقترحات وتوصيات:
من خلال ما سبق يمكن أن نشير إلى بعض المقترحات والتوصيات المتعلقة بالقراءة الجماعية، ومن أهمها:
1 – منع القراءة الجماعية بكل أشكالها وإغلاق صالاتها، مهما بلغ من صدق القرّاء والرّقاة، وذلك للمفاسد الكثيرة المترتبة عليها.
2 – وضع بدائل عن مراكز القراءة الجماعية كالعيادات الطبية النفسية، وذلك من خلال اختيار من لديه الكفاءة العلمية والشرعية لذلك، عن طريق لجان شرعية من أهل العلم المعروفين، أو يكون ضمن هيئة شرعية معتبرة.
3 – إشاعة التوعية بحقيقة الرقية الشرعية في المؤسسات التعليمية في المدارس والجامعات، وعبر الوسائل المختلفة، عن طريق وزارات الشؤون الإسلامية والأوقاف أو عن طريق وزارات الإعلام وعبر الفضائيات، أو عبر مواقع الإنترنت.
4 – توعية الأمة بمبادئ العقيدة الأساسية والصحيحة من حيث التوكل والاستعانة بالله وحده، من خلال مختلف الوسائل التوعوية والإعلامية.
5 – إعداد الكتيبات والنشرات التوعوية اللازمة وإقرارها من وزارة الشؤون الإسلامية لتحذير الناس من المشعوذين والسحرة ومراكزهم وقنواتهم، وبيان الأضرار المترتبة على ذلك من الواقع.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم