1 ـ فهو تفرق بين الدول الاسلامية يحول دون تجمعها أو تجميع طاقاتها ومصادر القوة في نسيجها بل يحول دون توحيد مواقفها في القضايا الكبرى التي تتصل بمصيرها ومستقبلها.. كما يحول دون التنسيق بينها في القضايا السياسية والاقتصادية على السواء.
2 ـ وهو تفرق بين الحركات والأحزاب الاسلامية يتمثل في اختلاف مناهجها في العمل واختلاف فهمها للاسلام ورسالته، واختلاف ترتيبها لأولويات العمل الاجتماعي والسياسي.. اختلافاً لا يقف عند حد إهدار فرص التنسيق والعمل المشترك، بل يصل في حالات كثيرة إلى حد الصراع بينها وتبادل الاتهام بالتفريط أو بالغلو أو بالإساءة إلى الاسلام والمسلمين.. ناهيك عما يصل إليه ذلك التفرق أحياناً من الصراع المسلح الذي يستباح فيه الدم الحرام.
3 ـ ثم هو تفرق بين أبناء الأمة.. على محاور عقائدية ومذهبية وفقهية وسياسية.. يجعلها عاجزة عن التفرغ لقضاياها الحقيقية، ويحرمها الحد الأدنى من التوحيد الثقافي الذي لا يمكن في غيابه الانطلاق إلى عمل نافع أو تحقيق تقدم حقيقي أو إحراز مكان أو مكانة على خريطة المستقبل..
على أن التصدي لمواجهة هذا التفرق بصوره المختلفة، والسعي إلى رأب التصدعات العديدة التي أصابت كيان الأمة الاسلامية يحتاج إلى حذر شديد وإلى التزام منهج صارم محدد المعالم.. وهو ما نقدمه ـ اجتهاداً متواضعاً ـ فيما يلي:
1 ـ إن أول معالم هذا المنهج، هو ضرورة الالتزام بأدب الحوار.. ذلك أن الحوار حول الاسلام وقضاياه أجدر وأولى من كل حوار مع التزام عفة القلم واللسان، والحرص على صون كرامة المتحاورين، وتقديم حسن الظن بالنية والقصد، فما أقبح أن يتنزل العلماء في حوارهم إلى جارح اللفظ وسيئ العبارة.
2 ـ أنه ليس من أهداف الحوار الذي ندعو إليه أن نغير مواقف الأطراف المختلفين أو أن نحملهم على ترك ما يؤمنون به.. أو أن نصفي جذور الخلافات التاريخية التي استمر بعضها قروناً طويلة.
إن الخلافات ذات الجذور التاريخية الضاربة في الأرض لا يلغيها أو يمحوها جهد فرد، ولا يمكن ـ مع ذلك القفز عليها بغير مخاطرة هائلة، وإن مواجهتها تحتاج إلى جهد متصل وصدر متسع وصبر طويل.. والهدف المحدد الذي نريد له أن يحكم هذا الحوار هو زيادة المعرفة المتبادلة والاستبصار الهادئ المنصف لمواقف الآخرين، والتأمل ـ من جديد ـ في مواضع الخلاف، والبحث الدؤوب في الوسائل والصيغ التي يمكن أن يتراضى عليها أطراف الخلاف.
3 ـ أنه مما يعين على تحقيق أهداف الحوار الساعي إلى التقريب أن نتذكر جميعاً أن تعدد الرؤية سنة من سنن الله وناموس من نواميسه في خلقه، وأن وحدة الحقيقة لا تنفي تعدد زواياها، واختلاف العقول في تفسيرها، ولو استقام ما يتوهمه البعض من أن وحدة الأمة تقتضي ضرورة إجماع الناس واتفاقهم على فهم واحد لما نشأت بين المسلمين علوم التفسير والكلام، وأصول الفقه، ولما سجل التاريخ اختلاف الصحابة في أمور عديدة وردت فيها آيات قرآنية وأحاديث نبوية، ولما سجل اختلاف التابعين وتابعي التابعين والأئمة أصحاب المذاهب من بعدهم.
4 ـ إن من الضروري عند إدارة الحوار بين طوائف المسلمين ومدارسهم الفكرية والفقهية، وضع الحدود بين ما هو ديني.. أي ما جاء به الوحي ولا يكون لمؤمن ولا مؤمنة بعده خيرة من أمرهم، وبين ما هو من أمور الدنيا وعادات الناس وأعرافهم.
5 ـ أن مما يعين كثيراً على تحقيق التقريب المنشود أن يرتحل العقل المسلم المعاصر من الماضي الذي انكفأ عليه وحده قروناً طويلة إلى الحاضر والمستقبل.. فلقد التوت أعناق أجيال متعاقبة من المسلمين وهم مشدودون إلى الوراء منكفئون على الماضي، مشغولون بالتراث، وحجتهم في ذلك كله أن من يقطع صلته بما فات.. لا رجاء له فيما هو آت.. وتلك لعمري كلمة حق يراد بها باطل، فإن أحداً من عقلاء المسلمين لا يقول بقطع الصلة بالماضي أو الإعراض عن جملة التراث، ولكن أي ماض وأي تراث؟
إن الماضي بكل ما فيه ليس من صنعنا نحن، وأمجاده لا فضل لنا فيها، وإنما تتمثل أمجادنا الحقيقية فيما نفعله ونحققه نحن، ثم إن الماضي ساحة هائلة امتدت في الزمان قروناً، وفي المكان آلافاً من الأميال.. شغلها الحق والباطل واجتمع فيها الهدى والضلال وتصارع فيها الاسلام مع الكفر والظلم والنفاق.. فماذا بقى إذن من أسباب الانكفاء الشديد على أيام مضت وانقضت.. وفيم هذا الإعراض النفسي والعقلي عن مواجهة المستقبل والإعداد له.
6 ـ وأخيراً فإن من أهم مداخل التقريب أن نستحضر عناصر الاتفاق بين أطراف الخلاف.. وأن نحصي ـ كذلك ـ مواضع الاختلاف.. وأن نعيد ترتيب الأولويات في عملنا من أجل الاسلام والمسلمين.. وإذا كنا في حارنا مع غير المسلمين ندعو إلى استحضار عناصر الاتفاق والاشتراك، فأولى بنا أن نفعل ذل مع إخواننا من المسلمين.
ذلك أن في العالم الاسلامي طاقات هائلة مختزنة، ولكنها توشك أن تحرق أصحابها بدلاً من أن تحركهم وتنطلق بهم إلى الأمام.. وفي وسع هذا الجمع الحاشد الكريم من علماء المسلمين أن يخطو بهذه الطاقات خطوة كبرى على طريق تصحيح المسار.. من مسار المشاعر المكبوتة والطاقة المستهلكة داخل الكيان إلى مسار الحركة الفاعلة والطاقة الموجهة لتغيير الأحوال ومواجهة التحديات.
ودعوني ـ على مشهد من هذا الجمع الحاشد الكريم ـ أطرح سؤالين كبيرين لا أنتظر عليهما الجواب:
ماذا لو أن روح الشهادة العظيمة التي اختزنها الوجدان الشيعي خلال القرون والتي تفجرت ـ على ما نرى ـ في صورة موجات بشرية هائلة راغبة في العطاء بغير حدود وهي تطلب الشهادة السريعة، وأطياف كربلاء الحزينة تستولي على مشاعرها كلها.. لو أن ذلك كله توجه إلى بناء مجتمع جديد شعاره ((استقلال إرادة المسلمين.. وتعمير أرضهم وإصلاح ذات بينهم.. والوقوف سداً منيعاً في وجه محاولات المستكبرين الحقيقيين لتحويل الكيان الصهيوني إلى قوة ردع عظمى وسط أمة العرب والمسلمين، تؤدب الذين يتجاسرون على الوقوف في وجه مصالح أولئك المستكبرين أو يحاولون وضع لبنات جديدة في بناء النهضة الاسلامية والعربية؟
ثم ماذا لو أن جماعات ((الغضب الاسلامي)) التي تنتشر من أقصى المغرب إلى أدنى المشرق والتي انحرف ببعضها الطريق، قد وجهت رغبتها الهائلة في التغيير، وغضبتها العارمة على أوضاع المسلمين وجهتها الصحيحة، فاشتغلت بالبناء والتعمير في صمت وتواضع وهدوء، بدلاً من الاشتغال بالهدم والإدانة والتكفير وسط ضجة هائلة وكلام كثير؟؟..
فالمسلمون اليوم يواجهون ما نعرفه من حملات التشويه والإساءة ويواجهون داخل بلادهم محاولات للتدخل الأجنبي وفرض الإرادة الأجنبية من جانب قوى كبرى تريد أن تنفرد بالتأثير والتوجيه في النظام العالمي القائم الذي لا نراه ـ بعد ـ نظاماً محدد المعالم واضح المعايير.. كما يواجهون أخطاراً هائلة من أخطار فرض التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية عليهم..
ويحتاج المسلمون ـ لذلك كله ـ إلى ((تقريب)) سياسي، تتوحد فيه الرؤية كما يتوحد ((السلوك)) في شأن عدد من القضايا السياسية الكبرى التي تواجههم، وأختار من بينها قضايا أربع:
1 ـ الموقف من الهوية والكيان الإسرائيلي الذي تم زرعه داخل الجسد الاسلامي، وفي موقع بالغ الخطورة يتعارض مع خطوط المقدسات العربية.
2 ـ الموقف من الدول المهيمنة على النظام الدولي المؤقت الذي نعيش جميعاً في ظله..
3 ـ الموقف من التكتلات الاقتصادية التي نأت خلال العشرين سنة الأخيرة.. ومن اتفاقيات التجارة العالمية التي لا بد أن تؤثر تأثيراً مباشراً على مجمل ((القوة الاقتصادية)) لكل الدول المسلمة.
4 ـ وأخيراً فإن مما يعين على تحقيق ((التقارب)) والتعاون تجاه القضايا السابقة جميعها.. أن تنشأ داخل العالم الاسلامي ((مراكز للبحث)) مزودة بمصادر المعلومات ووسائل المتابعة، ومناهج التحليل، وبالكفاءات القادرة على استخلاص ((البدائل العملية)) المتاحة في شأن كل من القضايا السابق ذكرها.